في ذكرى إضراب الثمانية أيام التاريخي، الذي شكل نقطة تحول هامة في مقاومة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، تلك المحطة التاريخية التي جسد فيها الشعب الجزائري، وخاصة التجار، موقفا نضاليا أصبح جزءا من العمل النقابي والسياسي في مواجهة المستعمر.
– عمران هند هيشور – محامية وناشطة إعلامية
لقد كان هذا الحدث البارز محط أنظار الساحة الوطنية والدولية، حيث أسهم في تسليط الضوء على القضية الجزائرية داخل أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحشد الطاقات الحية لدعم مسار الكفاح بكل الوسائل، فكان منارة أضاءت درب النضال، ورسخت عزم الجزائريين على المضي قدما نحو الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
واليوم، تستحضر الجزائر تلك الملحمة الشعبية التي توحدت خلف قيادة الثورة، مجسدة مدى تجنيد مختلف الشرائح لكسب المعركة السياسية. كما تؤكد، وهي التي كانت ولا تزال مهد الأحرار وذاكرة الإنسانية، مواصلتها لمسيرة التقدم في شتى المجالات، محققة إنجازات ملموسة في التنمية المستدامة، ومجددة عهدها مع مبادئ الثورة لبناء مستقبل أكثر إشراقا.
وفي إطار إحياء هذا التاريخ المجيد، نظمت المنظمة الجزائرية للتجارة والاستثمار الاجتماعي، تحت الرعاية السامية لوزارة المجاهدين وذوي الحقوق، فعاليات إحياء الذكرى الـ 68 لإضراب الثمانية أيام التاريخي، وذلك بالمتحف الوطني للمجاهد، في حدث مميز شهد حضور نخبة من المجاهدين الذين عايشوا تلك المرحلة الحاسمة، إلى جانب أفراد من الأسرة الثورية، في جو يسوده التقدير والإجلال لذكرى إحدى أبرز المحطات في مسار الثورة الجزائرية.
صوت الجزائر الذي دوى في الداخل وأيقظ العالم
يعد إضراب الثمانية أيام الذي بدأ يوم 28 جانفي 1957 نقطة تحول فارقة في مسيرة الكفاح الوطني، حيث لبى الشعب الجزائري نداء لجنة التنسيق والتنفيذ، فأغلقت المحلات التجارية، وشلت مختلف الأنشطة الاقتصادية، ليصبح الإضراب رسالة قوية للعالم تؤكد وحدة الصف الجزائري في مواجهة الاستعمار، رغم قسوة القمع الفرنسي، الذي لجأ إلى الاعتقالات والتعذيب لكسر عزيمة المضربين، إلا أن صمود الجزائريين أكد أن الثورة ليست مجرد عمل مسلح، بل استراتيجية متكاملة تقوم على كل أشكال المقاومة.
أدركت السلطات الاستعمارية خطورة الإضراب، خاصة بعد أن تناولت الصحف العالمية تداعياته، وأدرجته الأمم المتحدة ضمن جدول مناقشاتها في دورتها الحادية عشرة، حيث دعت فرنسا إلى البحث عن حلول سلمية للقضية الجزائرية. وهكذا، لم يكن الإضراب مجرد تحرك محلي، بل كان صدى لصوت الجزائر الحر، الذي دوى في المحافل الدولية، مسلطا الضوء على نضال شعب بأكمله من أجل استعادة سيادته.
القانون والإضراب…حق مشروع أم تحد للأنظمة؟
يعد الإضراب أحد الوسائل النضالية المشروعة دوليا، ويهدف إلى تحقيق مطالب مهنية واجتماعية، إلا أن تنظيمه وشرعيته يختلفان من دولة إلى أخرى، ورغم ذلك، فقد أقرته العديد من المواثيق الدولية كحق أساسي.
في الجزائر، يعتبر الإضراب حقا دستوريا، حيث لم يقدم المشرع الجزائري تعريفا محددا له، تاركا المجال للفقه القانوني لتفسيره. لكنه أقره كمبدأ دستوري يتماشى مع باقي القوانين، وهو ما يعرف بـ”دسترة القوانين”. ويعرف أيضا بأنه توقف جماعي ومنظم عن العمل من قبل العمال أو الموظفين بهدف تحقيق مطالب مشروعة.
وقد نصت المادة 70 من دستور 2020 على ما يلي:
“الحق في الإضراب معترف به ويمارس في إطار القانون. يمكن أن يمنع القانون ممارسة هذا الحق، أو يجعل حدودا لممارسته في ميادين الدفاع الوطني والأمن، أو في جميع الخدمات أو الأنشطة العمومية ذات المصلحة الحيوية للأمة.”
وبناءا على ذلك، فإن الإضراب، رغم كونه حقا مشروعا، إلا أنه يخضع لضوابط قانونية يجب احترامها، فلا يجوز أن يتحول إلى تجمهر غير مشروع أو أعمال فوضوية، كما يجب أن يتم تنظيمه وفق إجراءات قانونية مع إشعار السلطات المختصة مسبقا. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن يكون الإضراب خاليا من أي أعمال تخريبية أو إلحاق الضرر بالممتلكات والمنشآت، وألا يتم استغلاله لتحقيق أهداف شخصية أو غير مشروعة.
ورغم اعتراف العديد من الأنظمة القانونية بالإضراب كحق مشروع، إلا أن السلطات قد تواجه تحديات في التعامل معه، خاصة إذا تجاوز طابعه المهني ليأخذ أبعادا سياسية أو اجتماعية واسعة. ولعل إضراب الثمانية أيام عام 1957 يعد نموذجا بارزا لاستخدام الإضراب كوسيلة نضالية ضد الاحتلال الفرنسي، وظل محفورا في تاريخ الجزائر كنقطة تحوّل في مسار الكفاح الوطني.
فقد شهدت الثورة التحريرية الجزائرية منذ اندلاعها في 1 نوفمبر 1954 العديد من المحطات البارزة التي رسخت مكانتها على الصعيدين الوطني والدولي، كلها أكدت عن وحدة الشعب الجزائري وإرادته الصلبة في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
أهداف الإضراب وتوقيته
جاء الإضراب تزامنا مع عرض القضية الجزائرية في أروقة هيئة الأمم المتحدة، ليكون وسيلة نضالية جديدة للفت انتباه الرأي العام العالمي إلى الجرائم التي يرتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ولم يكن الهدف من الإضراب مجرد الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية، بل كان تأكيدا على وحدة الشعب الجزائري تحت لواء جبهة وجيش التحرير الوطني، وتمسكه بحقه المشروع في تقرير المصير واسترجاع سيادته الوطنية.
التحضير للإضراب والاستجابة الشعبية
رغم محاولات السلطات الاستعمارية إفشال الإضراب من خلال القمع والتنكيل، نجحت جبهة التحرير الوطني في حشد كافة فئات الشعب الجزائري، من طلبة وعمال وفلاحين وحرفيين وتجار، إضافة إلى الجالية الجزائرية بالخارج، وشهدت المدن الجزائرية استجابة واسعة، حيث توقفت المتاجر والمصانع والمدارس عن العمل، ما أثبت قوة تنظيم الجبهة وتماسك الشعب خلفها.
نجاح سياسي داخلي ودولي
أظهر الإضراب داخليا وحدة الشعب الجزائري ووقوفه صفا واحدا خلف جبهة التحرير الوطني كالممثل الشرعي الوحيد له، متجاوزا كل محاولات الدعاية الاستعمارية التي كانت تدعي أن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، وأن الشعب الجزائري لا يدعم الثورة.
أما دوليا كان الإضراب وسيلة ناجحة لتسليط الضوء على معاناة الشعب الجزائري تحت ظلم وقمع الاحتلال الفرنسي، مما دفع هيئة الأمم المتحدة إلى الاعتراف بالقضية الجزائرية كقضية تقرير مصير تستوجب الدعم الدولي.
التحديات والتضحيات
رغم نجاح الإضراب في تحقيق أهدافه السياسية، إلا أن الشعب الجزائري دفع ثمنا باهظا، حيث استغلت السلطات الفرنسية مدة الإضراب الطويلة نسبيا لتصعيد القمع، ما أدى إلى اعتقال الآلاف وتدمير العديد من الهياكل التنظيمية لجبهة التحرير الوطني. كما تعرض العديد من الجزائريين للتعذيب الوحشي على أيدي الجيش الفرنسي، الذي لجأ إلى استخدام أساليب قمعية، مثل إجبار العمال على العمل بالقوة وفتح المحلات التجارية بالقسر.
صمود جزائري ومواقف دولية تدعم الاستقلال
إضراب الثمانية أيام، كان محطة فارقة في تاريخ الثورة الجزائرية، لم يقتصر تأثيره على الداخل فقط، بل أثار ردود فعل دولية قوية، حيث تحركت شعوب العالم لدعم حق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
ومن أبرز المواقف الدولية الداعمة للثورة، “الخطاب الجزائري” الذي ألقاه السيناتور الأمريكي جون فيتزجيرالد كينيدي أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في 2 جويلية 1957. في هذا الخطاب، الذي سبق توليه رئاسة الولايات المتحدة، عبّر كينيدي بصراحة عن موقفه المؤيد لاستقلال الجزائر، منددا بممارسات الاستعمار الفرنسي وانتقاد سياسة بلاده التي دعمت فرنسا بشكل كامل في مواجهة جبهة التحرير الوطني. وأكد بقوة أن “استقلال الجزائريين أمر لا مناص منه”، مما منح الثورة الجزائرية زخما إضافيا على الساحة الدولية.
هذه المواقف الدولية، إلى جانب صمود الشعب الجزائري، عززت شرعية الثورة، وأظهرت للعالم قوة القضية الجزائرية وإصرارها على نيل الاستقلال.
أثر إضراب الثمانية أيام على الثورة التحريرية
كان لإضراب الثمانية أيام أثر بالغ على مسار الثورة التحريرية، حيث عزز الروح الوطنية ووحدة الشعب الجزائري، خصوصا في الأحياء الشعبية التي شهدت تلاحما كبيرا بين السكان رغم المحن.
كما عمق الشعور بالاستقلالية لدى الجزائريين وأضعف ارتباطهم بالسلطات الاستعمارية، مؤكدا قدرتهم على الصمود في وجه التحديات وأثبت الإضراب قدرة جبهة التحرير الوطني على قيادة الشعب وتوحيد كلمته، مما عزز مكانتها كممثل شرعي ووحيد للجزائريين.
وبالإضافة إلى ذلك، أحدث الإضراب صدمة داخل أوساط الاستعمار الفرنسي، حيث أظهر قدرة الثورة الجزائرية على نقل المعركة من الأرياف إلى المدن، مما شكل تحولا استراتيجيا في مسار النضال الوطني.
لقد كان إضراب الثمانية أيام تجسيدا حيا لوحدة الشعب الجزائري وتصميمه على استعادة حقوقه المسلوبة ورغم العنف والقمع، أظهرت هذه المحطة أن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن الحق في الحرية والاستقلال ينتزع بالتضحيات والصمود.
بقلم المحامية والناشطة الإعلامية
عمران هند هيشور