في زمنٍ تتشابك فيه المصالح وتُعاد صياغة التحالفات، تبرز الدبلوماسية الثقافية كإحدى الأدوات الناعمة التي تعتمدها الدول لتعزيز مكانتها وإبراز هويتها.
هذا النهج الذي تبنته الجزائر يعكس وعيًا عميقًا بأهمية الثقافة كوسيلة للتقارب وبناء جسور التواصل مع الدول الشقيقة، وفي مقدمتها موريتانيا، التي تجمعها بالجزائر روابط تاريخية وثقافية عريقة.
الدبلوماسية الثقافية ليست مجرد مبادرات رمزية، بل هي استراتيجية فعّالة تُعزز من خلالها الدول قوتها الناعمة. وفي العلاقة الجزائرية-الموريتانية، تلعب القواسم الثقافية المشتركة دورًا محوريًا في ترسيخ هذه الاستراتيجية، حيث يتشارك البلدان في تراث عربي إسلامي ثري، وامتداد جغرافي صحراوي، وتاريخٍ زاخر بالتبادلات الثقافية والتجارية.
من هذا المنطلق، تسعى الجزائر إلى تعزيز حضورها في إفريقيا والعالم العربي عبر مبادرات ثقافية تهدف إلى تبادل الخبرات وحفظ التراث المشترك، ما يجعل الثقافة أداة للتقارب تتجاوز الحواجز السياسية.
البُعد ثقافي في سياق سياسي
لزيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى موريتانيا مؤخرًا جاءت في إطار رؤية شاملة لتعزيز التعاون مع الدول المجاورة. ورغم أن الزيارة ركزت على قضايا سياسية واقتصادية مهمة، إلا أنها حملت بين طياتها بُعدًا ثقافيًا لا يقل أهمية، يعكس إيمان الجزائر بأن العلاقات القوية بين الدول تُبنى على أسس متعددة، أبرزها الثقافة.
هذا البُعد الثقافي يظهر جليًا في الحرص على تبادل الفنون والمعارف، والعمل على مشاريع مشتركة تُبرز الهوية التاريخية للبلدين، وتُكرس مفهومًا جديدًا للتعاون القائم على التفاعل الحضاري والإنساني.
التركيز على الدبلوماسية الثقافية في العلاقة بين الجزائر وموريتانيا يُبرز كيف يمكن للثقافة أن تكون أداة للتأثير الإيجابي على العلاقات الدولية. فالجزائر، بتاريخها الحافل في مجالات الفنون وحفظ التراث، تقدم نموذجًا يُحتذى به في استخدام الثقافة كوسيلة لتعزيز الروابط مع جيرانها.
إطلاق برامج مشتركة للتدريب الفني، وتنظيم مهرجانات ثقافية تحتفي بالموروث الصحراوي المشترك، والتعاون في مجالات البحث والتوثيق التراثي، كلها مبادرات تعكس حرص الجزائر على جعل الثقافة محورًا أساسيًا للتعاون مع موريتانيا.
الثقافة والسياسة تكامل لا انفصال
في العلاقات الجزائرية-الموريتانية، تظهر الثقافة كقاسم مشترك قادر على تجاوز تعقيدات السياسة. فالتاريخ أثبت أن التفاعل الثقافي هو الأداة الأنجع على بناء الثقة، وتعزيز الحوار، وتمهيد الطريق للتعاون في القضايا الكبرى.
الجزائر تدرك هذا جيدًا، وتسعى من خلال مبادراتها الثقافية إلى تكريس رؤية تُوازن بين المصالح السياسية والقيم الإنسانية، ما يجعل الثقافة رافدًا مستدامًا لشراكتها مع موريتانيا.
إن العلاقات الجزائرية-الموريتانية تقدم مثالًا حيًا على كيف يمكن للثقافة أن تكون جسرًا لا ينقطع بين الشعوب. الثقافة ليست ترفًا، بل وسيلة جوهرية لبناء علاقات دولية أكثر إنسانية وشمولية، قادرة على الصمود في وجه التحديات.
من خلال تعزيز التعاون الثقافي، تؤكد الجزائر وموريتانيا أن المستقبل يمكن بناؤه على أسس تتجاوز المصالح المادية، وتغوص عميقًا في الروابط الحضارية التي تجمع بين الشعوب. بهذا، تُقدم تجربة البلدين نموذجًا ملهمًا للدبلوماسية الثقافية كأداة للسلام والتنمية والتكامل.
دحمان بن سالم