تغرق ليبيا، الجارة المباشرة للجزائر، منذ عام 2011 في فوضى تنعكس مباشرةً على أمننا الوطني، فعلى بُعد مئات الكيلومترات من حدودنا، تُمثل طرابلس وبنغازي انقسامًا سياسيًا تُغذيه قوى أجنبية، بينما يخرج الليبيون إلى الشوارع مطالبين بوضع حدٍ للميليشيات والحكومات غير الشرعية.
في مواجهة هذه الأزمة، يتعين على الجزائر، التي ورثت تقاليد دبلوماسية جريئة صقلتها خلال ثورة التحرير الوطني، أن تتدخل. ليس بالسلاح، بل بدبلوماسية نشطة ومحايدة ومستشرفة لفرض السلام.
السياق الليبي: دولة ممزقة واستقرار إقليمي مهدد
منذ سقوط القذافي، انقسمت ليبيا بين كيانين متنافسين:
– “حكومة الوفاق الوطني (GEN)” في طرابلس، التي تخلت عنها تركيا المطالبة بالتوحيد، وقطر المُضعَفة بسبب استقالات داخلية وغضب شعبي.
– “الجيش الوطني الليبي (ANL)” بقيادة خليفة حفتر في الشرق، المدعوم من روسيا والإمارات ومصر وتركيا وقطر، الذي يتقدم بخطوات واسعة.
في 2019، أدى هجوم حفتر على طرابلس، بدعم من مرتزقة أجانب، إلى حرب مدمرة. رغم وقف إطلاق النار عام 2020 وتشكيل حكومة وحدة هشة، لم تُجرَ الانتخابات. وفي 2023، لا تزال التوترات مستمرة: حفتر يهدد طرابلس، والميليشيات تسيطر على الموارد، والشعب يحتج ضد عجز القادة. بتمويل ملايين الدولارات من حلفائه، يقف حفتر على أبواب العاصمة.
تجسد الاحتجاجات الأخيرة في مايو 2025 حجم اليأس: الآلاف يطالبون باستقالة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، المتهم بالتساهل مع الجماعات المسلحة. رغم دعواته لـ”ليبيا خالية من الميليشيات”، تتهاوى سلطته، وأسفرت اشتباكات في قلب طرابلس عن 8 قتلى.
“لماذا يجب على الجزائر التحرك: مسؤولية تاريخية واستراتيجية”
1. حدود مشتركة ومخاطر مشتركة :
عدم استقرار ليبيا يغذي الإرهاب وتهريب الأسلحة والهجرة غير الشرعية – تهديدات مباشرة لأمن الجزائر. سقوط ليبيا النهائي في الفوضى سيكون كارثة على المنطقة بأكملها.
2. إرث دبلوماسي يجب إحياؤه:
أثناء الثورة الجزائرية، استطاع شخصيات مثل عبد القادر شندرلي حشد الأمم المتحدة والتأثير على دول كالولايات المتحدة عبر ضغط ذكي. عمله مع جون إف. كينيدي، الذي أدى إلى خطاب تاريخي في مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1957، يُظهر قوة الدبلوماسية المبدِعة. أين هذه الجرأة اليوم؟
3. الحيادية والمصداقية :
على عكس تركيا أو روسيا أو فرنسا، لا تمتلك الجزائر أجندة خفية في ليبيا. رفضنا للتدخل العسكري يعزز شرعيتنا كوسيط.
“مقترح: آليات دبلوماسية جزائرية متجددة”
1. تحريك الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة:
على الجزائر طرح قرار في مجلس الأمن يطالب بـ:
– “انسحاب فوري للمرتزقة والمستشارين العسكريين الأجانب”.
– **”تجميد إمدادات الأسلحة”** عبر آلية عقوبات مستهدفة.
– “حوار شامل” تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، وليس القوى الخارجية.
2. “السيد الرئيس عبد المجيد تبون: إنشاء منصة حوار في الجزائر”:
في 2021، استضاف المغرب محادثات ليبية. لماذا لا تفعل الجزائر ذلك؟ يمكن أن تصبح عاصمتنا فضاءً محايدًا لجمع الأطراف الليبية والقبائل والمجتمع المدني، بعيدًا عن الضغوط الخارجية.
3. “الاستفادة من دروس التاريخ”:
كما فعل شندرلي مع النقابات الأمريكية، يجب على الجزائر بناء تحالفات مع جهات مؤثرة: منظمات دولية، إعلام عالمي، وبرلمانات أوروبية لعزل مُثيري الحروب.
4. “دعم مبادرات السلام المحلية”:
تمويل مشاريع عابرة للحدود (صحة، تعليم) ودعم البلديات الليبية المقاومة للميليشيات، مثل مصراتة مسقط رأس الدبيبة.
الوقت لم يعد للخطابات، بل للفعل
ليبيا عند مفترق طرق: إما تستمر القوى الخارجية في لعبتها المميتة، أو يفرض طرفٌ ذو مصداقية منطق السلام. تمتلك الجزائر الأدوار لهذا الغرض. دبلوماسيونا، المُشكّلون بروح باندونغ والحركة غير المنحازة، يجب أن يستعيدوا براعة أسلافهم.
الأزمة الليبية ليست “شأنًا عربيًا” أو “أفريقيًا”: إنها اختبار للمجتمع الدولي. لكنها فوق كل شيء، “معركتنا”. كما كتب فرانتز فانون: “على كل جيل أن يكتشف مهمته”. مهمتنا هي جعل جنوب المتوسط فضاءً للسلام، لا مقبرة جيوسياسية.
على الجزائر أن تُظهر الطريق.
عبد القادر رقيق
رئيس عمادة المهندسين الخبراء العرب (ORAREXE) –
جنيف سويسرا