في الذكرى الثمانين لأحداث 8 ماي 1945، أحيت ولاية البويرة اليوم الوطني للذاكرة بتنظيم ملتقى تاريخي هام بعنوان: “الذاكرة: وقائع الإجرام وقانون التجريم – إضاءات حول الجرائم الإنسانية للاستعمار الفرنسي ضد الهوية والذاكرة”، تحت شعار: “الوطنية في مواجهة الهمجية أشرفت عليها مديرية الثقافة تحت الرعاية السامية للسيد عبد الكريم لعموري والي ولاية البويرة، و بمبادرة من جمعية نشاطات السلام الثقافية حضرته جمعيات وطنية و تاريخية مميزة.
جاء هذا الحدث الوطني ليعيد كشف الوجه القمعي للاستعمار الفرنسي، الذي ارتكب في 8 ماي 1945 مجازر دموية حينما قوبلت المظاهرات السلمية بالقمع و التقتيل في حق الجزائريين الذين خرجوا في ذلك اليوم مطالبين بحقهم في الاستقلال والحرية ، تزامنا مع احتفال الحلفاء بانتهاء الحرب العالمية الثانية، ليكون رد الاستعمار همجيا وقمعيا ، و كشف عن زيف ادعاءات فرنسا حول الحريات وحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من بشاعة المجازر وفظاعتها ، فإنها شكّلت نقطة تحول مفصلية في مسار الكفاح الوطني، حيث مهّدت للانتقال من النضال السياسي و تجديد الوعي الوطني نحو عمل منظم و مسلح كمخرج وحيد وموحد لاسترجاع السيادة الوطنية بعد نفاذ كل الوسائل السلمية ، لتنال الجزائر في الأخير استقلالها في عام 1962.
مجزرة 8 ماي 1945… جرح في ذاكرة الجزائر
فكلما وثقنا الاتصال بماضينا الثوري وحرصنا على تذكر بشاعة الاستعمار و اسقطناه على الحاضر فإننا نستخلص الدروس بأن فرنسا لا يمكنها تجاهل ماضيها الدموي رغم محاولة تزوير الحقائق وتغليط الرأي العام الفرنسي و الدولي بأن هذا الاستعمار المدمر هو مشروع حضاري تدعيه عقول متطرفة من الأحزاب اليمينية الفرنسية ، التي عرقلت مسار النظر في ملف الذاكرة والذي لا يزال عالقا إلى يومنا هذا باعتباره أحد الملفات الجوهرية في ارساء علاقات جدية ومتوازنة بين الجزائر وفرنسا.
الجرائم في القانون الإنساني… مقاربة قانونية لجرائم الاستعمار وحقوق الضحايا
إن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائري خلال مجازر 8 ماي 1945 تندرج ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية، و التي يعتبرها القانون الدولي الإنساني انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان.ووفقا للمفاهيم الحديثة في القانون الدولي، يمكن تصنيف هذه الجرائم على أنها جرائم إبادة جماعية، كون الاستعمار الفرنسي قد استخدم أساليب قمعية ووحشية لا تليق بالبشرية مما يفضي إلى إلزامية تجريم الاستعمار.
مشاركة فعّالة من شخصيات تاريخية ونضالية
لقد جاء هذا الملتقى في ظرف وطني حاسم، تتزايد فيه الدعوات الشعبية والرسمية لاستعادة أرشيف التاريخ المسلوب ، وقد تميز بحضور نوعي ومداخلات قوية، عكست الوعي المتجدد بضرورة الدفاع عن الذاكرة الوطنية.
ولعل من أبرز محطات هذا اللقاء، مشاركة السيدة حمامة فراج، ابنة الشهيد عبد القادر فراج، أول شهيد أُعدم من أبناء ولاية البويرة، وثاني من نُفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة دقائق بعد الشهيد أحمد زبانة، في مشهد يكشف بشاعة الاستعمار ووحشيته. وقد تم تكريم عائلة الشهيد لأول مرة في ولاية البويرة، في لفتة وفاء واعتراف برموز الثورة وتضحيات شهدائها.
وسجلت الأستاذة فاطمة الزهراء بن براهم، المحامية البارزة والباحثة في ملف الذاكرة، مداخلتها التي فضحت من خلالها المغالطات التاريخية المحيطة بالجرائم الاستعمارية ، وقد أكدت في كلمتها القوية أن الحرب على التاريخ لم تتوقف، بل تحوّلت إلى معركة قانونية في فضاءات التوثيق والمرافعة من أجل التجريم والاعتراف.
كما شهد اللقاء حضورا إعلاميا متميزا من قناة الذاكرة، من خلال الصحفيين رابح مناد شربي وعبد اللطيف بن عقة، اللذين سلطا الضوء على الدور المحوري للأرشيف في كشف الجرائم الاستعمارية وتوثيقها للأجيال.
وفي مداخلة أكاديمية هامة، استعرض الدكتور مصطفى باديس أوكيل، رئيس قسم التاريخ بجامعة البويرة، نماذج من الجرائم الفرنسية في الجزائر، فيما أشار رئيس جمعية التاريخ والآثار، يحي هلال، إلى أهمية ترسيخ هذه المحطات التاريخية في وعي الأجيال، لما لها من دور في تعزيز الوحدة الوطنية والاعتزاز بالهوية.
بينما سمحت لي الفرصة كمحامية وناشطة إعلامية أن أأكد من خلال مداخلتي في هذا الملتقى أن الشعار الرسمي للذكرى الـ80 لمجازر الثامن ماي، “يوم الذاكرة: يوم مشهود لعهد منشود”، لم يكن شعارا عابرا، بل يحمل في طياته دلالات عميقة تربط بين لحظة مفصلية في تاريخ الجزائر وبين المستقبل الذي لا يُبنى بعيدا عن الوعي الذي تجسده الذاكرة الجماعية للأجيال المتعاقبة .
إنّ استذكار هذه المجازر الدامية هو وفاء لرسالة الشهداء وتجديد لعهد المقاومة والمرافعة من أجل الاعتراف والتجريم، وقد أكد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في أكثر من مناسبة، أن ملف الذاكرة من ثوابت الأمة و الدولة الجزائرية، ولا يمكن أن يكون محل مساومة أو تنازلات .
تجديد الدعوات للاعتراف الرسمي والعدالة التاريخية
لقد خلّفت مجازر 8 ماي 1945 أكثر من 45 ألف شهيد، حسب شهادات ومصادر وطنية اقتصرت على أماكن من الوطن دون غيرها مما يوحي بأن عدد ضحايا مخلفات هذه الجرائم أكبر بكثير من الرقم المذكور ، لتكون بذلك واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية.
واليوم، وبعد مرور ثمانية عقود، لا تزال الدعوات تتجدد من أجل الاعتراف الرسمي بهذه الجرائم التي تمسّ جوهر القيم الحقوقية التي تدّعيها الجمهورية الفرنسية.
لقد ارتقت هذه الذكرى من مجرد سرد تاريخي إلى مطالبة فعلية بتجريم الاستعمار وفق مبدأ عدم تقادم الجرائم ضد الإنسانية، فبالرغم بأن فرنسا نفسها كانت ضحية للنازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية و إدانتها في عديد المناسبات ، إلا أنها لم تُبدِ حتى الآن نفس الحساسية تجاه ممارساتها الاستعمارية .
مجازر 8 ماي 1945…رسالة تضامن أممية في الزمن المعاصر
في زمن تتجدد فيه المجازر بحق شعوب تناضل من أجل حريتها، مثل ما يحدث اليوم في غزة، يصبح استحضار مجازر 8 ماي رسالة تضامن مع الأمم و الشعوب المسلوبة الحرية ، ومطلبا أخلاقيا من أجل إنصاف ضحايا الأمس و العمل على التنديد والتصدي لما يحدث اليوم من جرائم بشعة على مرأى من العالم الذي يقف متفرجا وتتجمد فيه حركة بعض المنظمات الانسانية المزعومة التي تكيل بمكايلين بينما تميعت بعض المواقف العربية وانصهرت مع التطبيع.
كما أعاد هذا الملتقى التذكير بدور الحركة الوطنية الجزائرية في إعداد الأرضية النضالية، بداية من بيان 1943، مرورًا بإنزال الحلفاء في الجزائر (عملية الشعلة – نوفمبر 1942)، وصولًا إلى تأسيس حركة أحباب البيان والحرية بقيادة فرحات عباس، التي ضمّت أكثر من نصف مليون منخرط، وكانت أول من رفع العلم الوطني في مظاهرات قالمة في أفريل 1945.
استمرار الاستعمار الفرنسي في إنكار حقوق الشعوب
وبين مواقف فرانكلين روزفلت، المطالب بإنهاء الاستعمار، وتعنّت شارل ديغول في مؤتمر برازافيل، ظل الاستعمار الفرنسي متمسكا بخطاب إنكار الحقوق، حتى جاءت أحداث 8 ماي 1945 لتُفجّر الغضب الشعبي وتغلق الباب أمام كل أوهام الإصلاح من الداخل.
وبينما تنادي شخصيات فرنسية اليوم، مثل سيغولين رويال ودو فيليبان، بضرورة النظر إلى مستقبل الشعوب و القطيعة مع كل الممارسات التي تحن إلى الماضي الاستعماري من خلال التصريحات المليئة بالضغينة من روتايو وأمثاله من حفدة المجرمين وورثة المشروع الاستعماري الدفين التي تغذيها أطراف يمينية مدعومة من المخزن ، إلا أن الجزائر بوعيها الحضاري المتأصل في تاريخها الثوري المجيد لا تزال ننتظر موقفا واضحا وصريحا من الدولة الفرنسية يعيد الاعتبار للشهداء ويطهر ذاكرة الشعوب من جراحها.
معركة الذاكرة…من أجل الأجيال القادمة
في النهاية، فإن ذكرى 8 ماي 1945 وإن كانت مناسبة حزينة فهي دعوة كذلك لمواصلة النضال القانوني والدبلوماسي والإعلامي، من أجل تصحيح السردية التاريخية، والمطالبة بالاعتراف الكامل بالمجازر، كمقدمة لأي علاقة متوازنة ومتكافئة بين الجزائر وفرنسا. فمعركة الذاكرة التي نخوضها من أجل الأجيال القادمة ستُبقي على الحقيقة ثابتة و منزهة من كل تشويه تاريخي.
عهد الوفاء للدماء الزكية…
فالجزائر اليوم الجزائر الجديدة تخطو بخطى ثابتة نحو التصالح مع عهد الشهداء من خلال مواقفها الثابتة نحو القضايا العادلة ليس فيما يخص الأمة العربية و الاسلامية بل كل ما يمس بحق الشعوب في تقرير مصيرها في المعمورة قاطبة فالعدل والسيادة و العيش الكريم من منطلق الانسانية هو عنوان لارساء نظام عالمي جديد خال من الهيمنة الهمجية للقوى المتسلطة .
فهذا اليوم الوطني للذاكرة ليس مجرد إحياء رمزي، بل وعد لمواصلة مسار التوثيق وتجديد العهد مع التاريخ الثوري للجزائر و مدّ الجسور نحو المستقبل من خلال توثيق الحقيقة للأجيال الصاعدة ولا يتأتى ذلك إلا بخوض معركة قانونية قوية وفعالة لاسترجاع كل حق مسلوب تحت طائلة القانون الدولي.
لتبقى الذاكرة محفوظة نضيء بواسطتها درب المستقبل نحو جزائر العدالة والسيادة والكرامة.
بقلم الأستاذة عمران هند هيشور
محامية وناشطة إعلامية