الأستاذة عمران هند هيشور
لا شك أن العصر الراهن هو عصر الثورة التكنولوجية بإمتياز، والتي دخلت في منظومة ونمط الحياة التي نعيشها سواء في علاقاتنا أو سلوكياتنا اليومية، فوظفت كأداة لتسهيل التواصل والتبادل بين الأفراد والمؤسسات، وقد فتحت لمجال المحاماة كغيره من المجالات والوظائف الحرة آفاقا عديدة استفاد منها المحامون والمتخصصون في مجال القانون لما توفره من أدوات ساهمت في تحسين كفاءتهم المهنية وقدراتهم في حل القضايا الصعبة في وقت وجيز وبأقل جهد.
لقد أصبح الاعتماد على التكنولوجيات الجديدة ضرورة حتمية بعدما أضحت التعاملات الكلاسيكية القديمة لا تجدي نفعا أمام هذه القفزة العلمية في مجال الخوارزميات والرقمنة، التي توظف لفك شفرات المسائل المعقدة في ميدان المحاماة. وخير مثال على ذلك هو إقتحام الروبوت ” دو نوت باي” للمبرمج البريطاني “جوشوا براودر ” عالم المحاماة وأروقة محاكم الولايات المتحدة الأمريكية ومرافعته النوعية في حق متهمين ارتكبوا مخالفات مرورية.
مما يجعلنا نتساءل إذا كان من الممكن للذكاء الاصطناعي تعويض دور المحامي الذي من مهاراته القاعدية قوة الحجة في المناقشة و إتقان شتى أساليب التفاوض؟ وهل مستقبلا يمكننا الإستغناء عن خدمات الذكاء الإصطناعي؟
لا يزال الذكاء الاصطناعي في مجال المحاماة في الجزائر في مراحله الأولى أو بالأحرى يكاد يكون توظيفه منعدما. ويرجع ذلك للعديد من الأسباب من بينها عدم توفر نصوص قانونية مرافقة لهذا التطور، إضافة إلى جموح بعض الذهنيات في تقبل هذا التطور والتجاوب معه إيجابيا ربما يكون ذلك تخوفا من فكرة التكنولوجية الذكية الدقيقة التي لا تترك مجالا للتغيير، في حين تتسارع ميادين أخرى كالتسويق والتجارة ومجالات التطوير المعلوماتي لتبني وتوظيف الذكاء الاصطناعي في التسيير.
الذكاء الإصطناعي والبحث القانوني
يعتبر البحث القانوني جزءًا أساسيًا من عمل المحامي وكان يتطلب ساعات من البحث في الوثائق والسابقات القانونية الكثيرة ، إلا أن بدأ الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ليتمكن المحامي بواسطته البحث في قواعد البيانات التي تخزن ملفات قانونية ضخمة يمكن الاطلاع عليها بسرعة فائقة مع الحصول على كل المعلومات ذات الصلة بموضوع البحث من جهة، كما توفر له أنظمة قانونية جاهزة و ممنهجة تعتمد على الذكاء الاصطناعي تقوم بتحليل شامل وسريع لكم هائل من المصادر القانونية والقرارات القضائية من مصادر مختلفة وفي نفس الوقت، معتمدة في ذلك على نماذج لغوية عميقة دقيقة. كل هذه المصادر ساعد وتسهل للمتصفح اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة التي تعطي القيمة المضافة لملف القضية.
في ذات السياق، كان لدخول الذكاء الإصطناعي المجال القانوني وبالأخص المحاماة أثرا إيجابيا من حيث النوعية وتوفير المعلومة عن طريق وضع جسور إتصال آنية بين المحامين وتوسيع شبكة التعاون بينهم وهو الأمر الذي نتطلع أن يتجسد مستقبلا في الجزائر التي قطعت شوطا كبيرا في مجال الرقمنة في العديد من القطاعات. مع كل هذه المزايا والتسهيلات المغرية يبقى الذكاء الاصطناعي عالم غامض يعتمد على تقنيات تحليل بيانات للتعلم يتم برمجتها أساسا بواسطة عقل بشري. لذلك يجب أن تكون هذه البيانات خالية من التحيز أو توجهات فكرية معينة، قد تؤثر سلبا في توجيه قرارات قانونية نحو أحكام غير عادلة أو غير متوازنة وهو الأمر الذي لم يتم التأكد منه الى حد الساعة.
استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات التشريع ونمذجتها
يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير وأتمتة النظم القانونية في الجزائر، من خلال تحسين كفاءة إدارة القضايا والوثائق القانونية والعمل على تسهيل إجراءات المحاكمة، والتقليل من الأخطاء الإجرائية التي قد تكون سببا رئيسيا في إنزلاقات وإنحيازات في العديد من القضايا. ومنه نستنتج إمكانية مساهمة هذه التقنيات في تحسين نظام العدالة وتعزيز الفعالية والشفافية في العمل القضائي.
أيضا، للذكاء الاصطناعي القدرة على تحليل القوانين والتشريعات القائمة واستخلاص المعلومات وترتيبها على حسب درجة أهميتها مع تحديد الأنماط والاتجاهات في القوانين والتعليق عليها، مما يساعد المشرعين في فهم الوضع القانوني الحالي وتحديد المجالات التي تحتاج إلى تعديل أو تحسين من جهة، وتحليل تأثيرات التشريعات المحتملة على المجتمع والقطاعات المختلفة باستخدام البيانات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية المتواجدة مع تقديم تنبؤات إستشرافية محتملة من جهة أخرى.
أما فيما يخص النمذجة التشريعية، لهذا الأخير القدرة على إنشاء نماذج قانونية لتقييم فاعلية التشريعات وتجريبها على سيناريوهات مختلفة وتحليل نتائجها. كما يمكنه مراجعة التعليقات والآراء العامة حول قضايا قانونية معينة من خلال تحليل وفهم الآراء والملاحظات المختلفة وتزويد المشرعين برؤى قيمة حول مدى التأييد أو الرفض لمشاريع قانونية محددة وتقديم توصيات بشأن الإجراءات الأمثل للحصول على نتائج أفضل.
لكن في المقابل يبقى خطر الإنحياز لرأي أو وجهة نظر معينة هو أخطر جانب في هذه الأداة التكنولوجية المتطورة وتبقى بمثابة سلاح ذو حدين.
هل يمكن للروبوت أن يعوض المحامي البشري بشكل كامل؟
بطبيعة الحال مهما بلغت قدرة الآلة الذكية في جمع وتحليل البيانات لا يمكنها تعويض المحامي البشري، ذلك لأن مهنة الدفاع النبيلة لا تقتصر على رصيد المعلومات والتمكن من القوانين فقط، بل تتطلب القدرة على التفاعل مع الأشخاص وفهم قصصهم ومخاوفهم وأراءهم وهي مسألة مرتبطة بالشعور والإحساس المتصلة بالعقل البشري. قد يكون الروبوت قادرا على تقديم معلومات قانونية ونصائح، ولكنه يفتقر إلى القدرة على التفاعل البشري الشامل وفهم العواطف والسياقات المعقدة.
من المعروف أيضا أن قاعات المحاكم كثيرا ما يتم فيها مناقشة قضايا ومسائل قانونية ذات طابع أخلاقي، أين ينبغي أن يرافع فيها المحامي البشري بناءا على تجربته وتقديره الأخلاقي. قد يكون من الصعب على الروبوتات التعامل مع هذه المسائل بنفس القدر من التفهم والحساسية.
إذا افترضنا استبدال المحامي البشري بروبوتات مبرمجة بذكاء إصطناعي، فذلك لا يقل خطورة عن إستبدال طبيب جراح الذي لديه إمكانية اتخاذ القرار الآني بآلة ذكية لن ترجع عن قرارها عند التنفيذ، تسلم لها حياة المرضى وتكون رهينة مجموعة من خوارزميات منطقية. كما أن ذلك سيقلص من فرص العمل لدى مهنة المحاماة، مما يؤدي إلى اختلال التوازن في النظام القانوني والإقتصادي وبالخصوص الاجتماعي في بلادنا.
والجدير بالذكر أن استبدال المحامي البشري بروبوتات ذكية رغم التجربة المذكورة آنفا، لا يزال فرضية مستقبلية وغير واقعية في الوقت الحالي. فمهنة المحاماة تتطلب تجاوبا حسيا وشعوريا ونفسيا أمام القضايا المطروحة مع العديد من المهارات التي تخص العنصر البشري دون غيره، ذلك التفاعل النابع من التجارب الإنسانية المتراكمة والمكتسبة المتصلة بالجانب الأخلاقي. ومنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي كأدات مساعدة للمحامين في تحليل البيانات والأبحاث وتوفير المعلومات القانونية، ولكن لا يمكن أن تحل محل البشر في اتخاذ القرارات المصيرية والمسؤولة.
في الختام، يمكننا إستنتاج أن استخدام الذكاء الاصطناعي في المحاماة يمكنه أن يحقق إضافات كبيرة في الكفاءة والدقة في إختيار الإجراءات القانونية المناسبة توفيرا للوقت وللجهد ويبقى العنصر البشري منبع كل القرارات في استخدام الإجراءات القانونية اللازمة لحمايته للبيانات والمعلومات الشخصية، دون التحيز والتمييز لأن الآلة في حالة وقوع هفوة قانونية لن تخضع للمساءلة فعلى من تقع المسؤولية القانونية إذن، ومن الذي يحددها وما هي القواعد والمعايير التي يجب الالتزام بها من أجل تجنبها.
باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مناسب وتوافقه مع التشريعات والمبادئ الأخلاقية، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي في تحسين مجال المحاماة وتقديم خدمات قانونية أفضل. كما يجب أن تكون هناك رقابة وإشراف من قبل الجهات المعنية لضمان الامتثال القانوني وتحقيق العدالة والنزاهة في هذا المجال الحساس، الذي يعتبر القاعدة المتينة في بناء دولة الحق والقانون.
لإستخدام أنجع وتوظيف أمثل لمختلف أدوات الذكاء الإصطناعي في مجال القانون، ربما آن الوقت لوضع ورشات عمل ومجموعات تفكير على مستوى وزارة العدل مع إشراك نقابة المحامين و الإستفادة من خبراتهم.
بقلم الأستاذة عمران هند هيشور
محامية، عضو المنظمة العربية للمحامين الشباب
عضو الاتحاد الدولي للمحامين
ماستر قانون أعمال
ليسانس علوم الاعلام والاتصال
ليسانس في التسيير